
نتيجة اهتمام الباحثين في عقيدة المخلص الموعود عند أصحاب الديانات السماوية والوضعية، وما رافق هذه العقيدة، من فكرة الانتظار عند أصحاب المدارس الفكرية المختلفة، وما يحمله خطاب هذا الفكر من سلطة نافذة، اكتسبت هذه العقيدة هويتها على أساس إيصال الناس إلى برّ الأمان . انطلاقاً من هذه النظرية في انتظار المخلص الموعود بدأ أرباب الاستعمار يطرحون نظريات وآراء بهدف ترويج مفاهيم مضادة وإيجاد قطبين أحدهما المستعمر، والآخر من الخاضع له ، ومن ثم اعتبروا أنفسهم أعلى درجة من غيرهم. وقد أدى ذلك إلى ترويج فكرة أن الغربيين من أتباع الدين المسيحي هم الناجون فقط، وأن ما يطرحه المسلمون عن فكرة الفرقة الناجية يجب أن يشهد تحولاً كبيراً من خلال طرح مفاهيم جديدة منبثقة من ميتافيزيقيا ذات طابع عصري وخاصة أن الخطاب المذهبي يتيح لكل فرقة إسلامية أن تعتبر نفسها هي الفرقة الناجية.
وطالما أن عقيدة المخلص الموعود متفق عليها بين المذاهب الإسلامية ما خلا فكرة انتظار المخلص التي استفردت بها الطائفة الاثني عشرية الشيعية المسلمة ، فالمسألة هنا والأكثر أهمية أن خطابها المهدوي لا ينسجم مع الرؤية التي يطرحها الاستعمار الغربي في مسألة انتظار المخلص الموعود، والاستعمار في نظر الشيعة وغيرهم من المسلمين هو سلطة غربية سلبية على سائر البلدان والمجتمعات في العالم . هذه الظاهرة أصبحت مقبولة الآن وقانونية تواكب المشروع التاريخي الشامل الذي يرومون تنفيذه في شتّى أرجاء العالم .
كان شعار المستعمر: بدل أن تبقى ساكناً في صالة مظلمة انظر أمامك وستجد ممراً مظلماً يدعوك فيه مصطلح مشرق إلى الأمام، هذا الشعار المتناقض مع نفسه ارتبط بأسس فكرية أنتجت بنية تاريخية متناقضة وما زالت تسير في هذا المسار، ولكن الذي تم تركيزه في الفكر الاستعماري هو ادعاء أربابه أنهم جاؤوا بحضارة حديثة للبشرية وثقافة راقية وديموقراطية تضمن حقوق الشعوب .
وبناءً على هذه الرؤية، فالمنهج الاستدلالي الفكري يهدف إلى إنتاج مفاهيم ومداليل مختلفة، ومن ثم بلورتها وطرحها وتصويرها وفق منهج الخطاب الاستعماري الذي ينبثق من مفاهيم ومداليل مصطنعة، والتأكيد على إقامة علاقات بين السلطة المقتدرة المهيمنة والأطراف الأخرى على أساس استعماري .
ولو رجعنا إلى الوراء قليلاً ونظرنا إلى خطاب انتظار المخلص الموعود في التشيّع، فإننا نجد أنه خطاب طوباوي لا ينتج أية مفاهيم ومداليل تواكب متطلبات العصرالحديث، فهو خطاب سلبي حيث إن المهدي المنتظر سيظهر ويقيم مجتمعاً إسلامياً مثالياً ، وهذا الخطاب جاء ضمن مجموعة أحاديث ذكرها المجلسي في كتابه بحار الأنوار والتي تنقسم إلى فئتين مختلفتين : فضل الانتظار مكون من مكونات الإيمان، وما ينبغي للشيعة فعله زمن غيبة المهدي وإبان الملاحم التي ستؤذن بظهوره. فعقيدة انتظار المخلص هذه تتمتع بدلالات مهمة منها :
أولاً: بما أن المهدي غائب وهو القائد الروحي، فماذا يجب على المؤمنين فعله في زمن غيبته وإلى من تؤول إدارة الشؤون الدينية ؟.
وثانياً :بما أن المهدي قائد سياسي للشيعة فما هو موقف الشيعة من الحكومة الدنيوية في زمن غيبته ؟
في خضم هذه التوجهات الفكرية عرف الشيعة هويتهم في زمن غيبة المهدي من خلال أولاً : الصبر على المصائب والمحن، وعدم الخوض في الثورات وهو ما سطره المجلسي في كتابه من أحاديث رويت عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. ثانياً : عدم الاحتكام إلى حكام الجور في زمن الغيبة
فإذاً فكرة الانتظار هي بمثابة رسالة ميتافيزيقية وهي المرتكز الذي تبلورت على أساسه الظروف التي أدت إلى الانعزال والهمود السياسي .هذه الرسالة الميتافيزيقية احتضنها الفكر الاستعماري وظهرت آثارها عندما نشأت حركة استعمارية قامت على الفكر المسيحي على أساس أنه هو وحده الناجي في مقابل الإنسان المعتقد بدين آخر غير مقبول أو كافر، ولكن من هو المسيحي سواء اعتقد بدين آخر أو كان كافراً ؟ وفي المقابل من هو الشيعي سواء اعتقد بظهور المخلص الموعود أو كان كافراً به ؟. هذه المداليل كانت وليدة للنهضة والحداثة ومحوريةً طرحت مسائل في الأوساط الدينية والفكرية مثل :
ما هي النزعة الفردية عند الشيعة في الاعتقاد بفكرة انتظار المخلص الموعود ؟. ما هي حرية حركة هذا الفرد الشيعي ضمن فكرة انتظار المخلص الموعود ؟، وما هي جوانب التطور الفكري وتنمية المجتمعات ضمن سياق فكرة انتظار المخلص الموعود ؟ هذه التوجهات كانت أساسية في اختراق المذهب الاثني عشري، إذ اعتبرت هذه الأسئلة محوراً للتاريخ وشدّ الرحال إلى مختلف البقاع والشعوب التي تكبّلها قيود الجهل، فهذا الفرد الشيعي الذي حمل رسالة روح التاريخ المهدوي ليقود هذه الشعوب والعالم لا يستطيع مواجهة المكون الاستعماري بهويته المقتدرة التي استند عليها .
هذه السلبية في فكرة انتظار المخلص صاغت هوية أخرى في نهاية المطاف، فعندما تتمحور مفاهيم ومداليل في إنقاذ الناس من الأزمات حسب الفكر الغربي الاستعماري، ففي هذه الحالة يمكن دمج الهويات مع بعضها البعض بشكل تدريجي ومنتظم لتصبح هوية واحدة وذات شأن أعلى، وهذا ما حصل عندما انخرط التشيع اللندني ومراجعه الشيعية في المنظومة البريطانية فالولاء أصبح لبريطانيا ، و لذا فإن ما نواجهه اليوم هو تهميش لفكرة انتظار المخلص الموعود لتأصيل وجود الذات، وهذا معناه ضرورة تهميش أصل فكرة انتظار المخلص ومحو هويته، وفي كلتا الحالتين ستصاغ هوية جديدة . والحمد لله رب العالمين.